دبَّت الحياة مرةً أخرى في المدارس، كأنما الربيع يعود ببشائره وابتهاجاته لمروجه الخضراء، وتفغي براعم الزهور بألوانها البراقة، التي تضيف للحياة معنى جميلا، تبتهج له النفوس، وتشرق به الآمال، وتستيقظ به الطموحات؛ فتنطلق قاطرة جديدة من محطتها في مهمة جديدة بعد استراحة صيفية، لتصنع حلما، وتبني وطنا، وتعانق أملا.
المدرسة هي مرتع الحياة الصغيرة التي يأتمن فيها الوالدان على أبنائهم، حينما يصبحون في عهدة أولياء أمورهم المعلمين، فأنتم أيها المعلمون صناع حضارة، وبناة أجيال، ولا مراء بأن مهمتكم تتجاوز إيصال معلومة، أو شرح درس، فإن أصبح الطلاب بين أياديكم فعلموهم حقائق تستحق التعليم ليدركوا الاتجاه، وليكسبوا الوسيلة، وليحصدوا الثمر.
علِّموا طلابكم أنَّ العلم ليس مجرد شهادة تُمنح آخر العام تحمل نتيجة ما، وإنما العلم في حقيقته نماء للشخصية، وتوسعة للتفكير، وترقية للذوق، وإعلاء للشعور؛ فإذا أراد الإنسان أن يرى أثر العلم في نفسه فلا ينظر بفخر إلى شهادته الصامتة في إطارها فهي مجرد ورقة، وإنما ينظر لشهادته الناطقة في سلوكه، وليتبصر أثر التعليم في نفسه، وما أنجزه من عجن المعلومة وتحويلها إلى خبز معرفي ينفع حياته، وحياة وطنه.
علِّموا طلابكم أنَّ العلم بدون أخلاق إنما هو كالجذع يعجب الناظر شموخه في عنان السماء لكنه أجوف، فارغ من الداخل، لا يملأ لبه شيء، فالعلم هو في الأصل ترقية للأخلاق التي تمنح الإنسان قيمته، فيقدر بحسب قيمته عند الله والناس. علِّموهم أن علمكم لن يجديكم نفعا إلى أن يرى أثره على أخلاقكم، فإن حسُنت كنتم بحق المتعلمين، وإن فسَدت فقد ضاع علمكم سدى دون أثر يذكر.
علِّموا طلابكم أنهم رُسل قيم إلى البشرية وليس إلى مجتمعاتهم وأممهم وحسب؛ فالمتعلم حامل قيم سلام وخير وحق وعدل وتعايش وتسامح وعفو واحترام إلى الناس، فما الخاوي من هذه القيم العليا إلا جهول مفلس لم يعنه علمه على أن يغرف من منهل القيم الكريمة شيئا، فهو الفقير نفسا، والضحل فكرا، والبائس عقلا، إذ لا يقرن العلم الأصيل مع قبح، وشر، وظلم، وحقد؛ فالأمراض النفسية لا تحل قلبا مستنيرا، مهتديا للطريق السوي الذي يرى الله حوله.
علِّموا طلابكم أنَّ الإسلام رفعة، فإن أدرك المسلم قيمته، عرف أن شأنه عظيم بين الأمم، لكن الأهم من ذلك أن تعلموهم بأن الدين هو الأخلاق والمعاملة؛ إذ لا قيمة لالتزام ديني في أداء الشعائر والعبادات دون أن يكون لذلك أثره في حياة المسلم ومجتمعه، فالدين ليس لباسا يرتدونه، ولا مظهر يتباهون به، وإنما هو قبل ذلك سلوك راق، يعلو به الإنسان مرتبة، ويزكو به نفسا، ويتجلى به فكرا، والدين منهج حياة ينطبع على السلوك، والمعاملات، فبهما تُوزن أعمال المرء، قبل أن تُوزن عبادته؛ إذ العبادة ترجمة واقعية للسمو الروحي في بشرية الإنسان، وفي تعاطيه مع كل شؤون الحياة.
علِّموا طلابكم أنَّ الانضباط هو أساس النجاح، فإنْ لزموه فقد ترسَّموا لأنفسهم طريقا للتوفيق في نيل المرامي، وحصد الإنجازات، وإن تركوه اتجهوا إلى الفوضى والعبث وضياع الأوقات والأعمار والطاقات، وتلك وسائل الانحراف التي تهوي بهم في مستنقعات الجريمة، وبراثن الغواية، وأوكار المجرمين، وسجون المنفلتين من أسر الانضباط الروحي والأخلاقي.
علِّموا طلابكم أنَّ للمستقبل عقولًا ومهارات محددة، فلا يسيروا في ذات الطريق الذي سلكه آباؤهم في التفكير للمستقبل، ولا يلتزموا بذات المهارات؛ فالحياة في تجدد مستمر، والعالم يدخل من طور إلى طور لا يعترف فيها إلا بمن يواكبه علما، وقدرة، وكفاءة، ومهارة، أما من يخوض في الأحلام الوردية فإنه سيجد نفسه أبعد ما يكون عن المستقبل، بل إنه يعود إلى بداية الطريق التي انطلق منها. علِّموهم أنكم إن لم تكونوا أصحاب عقول منفتحة، وأفكار متجددة، وهمم فتية، فإنكم لن تعانقوا المستقبل بما يحمله من تحديات عظيمة، وصعوبات معقدة.
علِّموا طلابكم أنَّ الواقع قد يختلف عن مثاليات الكتب، وأنَّه حافل بالتعقيدات، وأن ليس من السهولة الحصول على أربعة كنتيجة لاثنين زائد اثنين في الواقع كما تبسط ذلك المسألة الرياضية المجردة! وأن الواقع مليء بالتناقضات التي لا ترد في الكتب، وإنما يواجهها الإنسان في حياته، فإن علَّمتموهم ذلك لم ينصدموا بمرارة الواقع، وصعوبات الحياة، ولم تنكسر قواهم أمام عواصف الواقع، ومرارة التجارب.
علِّموا طلابكم أنْ يكونوا أداة تغيير لمجتمعاتهم، فهم الذين يعلق عليهم الوطن آماله لإحداث تغيير إيجابي فاعل في مستقبله، وطرق معيشته، وهم الذين يراهن عليهم في سباقه الحضاري مع الأمم الأخرى كي لا يتأخر متقهقرا إلى الخلف.. فالتغيير لا يأتي إلا من متعلمين يدركون مسؤولياتهم نحو مجتمعاتهم أعظم إدراك، فيقومون بواجبهم بإرادة لا تخبو، وعزيمة لا تفتُر.
علِّموا طلابكم أنَّ الهُوية الوطنية هي ذاتهم؛ فمن فقد هُويته فقد ذاته؛ فالافتخار بترايخهم وإرثهم هو أساس هُويتهم، على أن الهُوية لا تعني الركون إلى كل ماض، وتقديس كل ما هو تليد، وإنما هو التجدد المستمر، والأصالة المبدعة، والعطاء المتواصل؛ فلا قيمة للإنسان إن ارتهن لماض دون حاضر، ولا قيمة له إن انقطع عن أصوله وماضي أمته بكل ما يحمله ذلك الماضي من معطيات أنتجت ذاته الحاضرة.
علِّموا طلابكم أنَّ الوطن هو الكرامة والحرية والعدالة؛ من حمل أمانته باقتدار ونزاهة وكفاءة حاز وسام المواطنة الإيجابية، واستحق لقب "المواطن الإيجابي"، ومن استغل وطنه لتحقيق مطامحه الذاتية الضيقة مُكشِّرا عن أنانيته البغيضة، فلا يحق له أن يفاخر بوطن لأنه غدر به، وخان واجبه الوطني نحوه. علِّموهم أنَّ براهين الوطنية هي: المحبة الصادقة، والأمانة الشريفة، والعزيمة المتوقدة، والعمل المخلص، والتضحيات الجسام، وأنَّ فتورَ الهمم مضيعة للذمم، وفساد النفس خراب للشيم.
علِّموهم أثر القراءة على التغيير، والانتقال من مرحلة لأخرى في مضمار السعي الإنساني لتنمية الذات، لكن الأهم أن تُعلِّموهم قبل ذلك التفكير الناقد حتى يفندوا بعقولهم الغث من السمين، والسم من الترياق، وينأوا بأنفسهم من أن يكونوا مجرد ظهور تنقل كتب ضلالات بالية، وخرافات متوارثة، بل أن يكونوا منتجي أفكار، وناقدي آراء، وطارحي تصورات.
وثِقُوا بأنكم إنْ أحسنتُم تعليم طلابكم ما تقدَّم، فإنَّنا سنُراهن عليهم حينئذ في صُنع مستقبل مزدهر، مشرق، ترتجيه أنفسنا بشغف وتفاؤل، وسنشكُر لكم صنيعكم هذا الذي قدمتموه للوطن وللأمة، وسنردد على مسامعكم بفخر: "قم للمعلم وفه التبجيلا... كاد المعلم أن يكون رسولا".
د. صالح الفهدي
اترك تعليق